أســـامـــة حــمـامـــة

W E L C O M E

عن اللاأخلاقية في الترامواي

Leave a Comment
كثيرا ما تستوقفني سلوكات نماذج بشرية لا أنفك أصادفها خلال رحلتي اليومية على متن "الترام"، وأنا هنا بصدد جرد بعضها لكم، إيضاحا لتدني المستوى الأخلاقي وانهيار منظومة القيم لدى شرائح عريضة من مجتمعنا.

تبدأ أول فصول الحكاية مع صديقنا "الهرّاف"، الذي ستراه قادما من بعيد مسرعا إلى الشباك بينما ينتظر الجميع في الطابور لاقتناء تذكرة، شخص لا يستحي خرق نظام الصف، ولا يحترم الواقفين، يتظاهر بعدم سماع تنبيهاتهم واحتجاجهم عليه، وإذا حدث أن استدار لصوت مناد، تذرع -مستخفا طبعا- بكونه "في عجلة من أمره" ثم مضى ليبتلعه الزحام.

لا تحزنوا، فـ "الهرّاف" سيظهر مرة أخرى عند وصول الترام، ستجده مسمرا أمام الباب، وبمجرد أن يفتح، لن يتريث أبدا حتى ينزل الركاب، بل سيتدافع مع الناس ليسبق الكل إلى الصعود، وإلى تأشير التذكرة، ثم سيهرول لأقرب مقعد شاغر، وقد يؤجل عملية التأشير حتى يحجز لنفسه مكانا للجلوس، واضعا فيه غرضا شخصيا، بل سيقدم أحيانا على حجز الكراسي لمرافقيه أيضا. يذكرني هذا بأجواء المسجد في رمضان أو أيام الجمعة، حين يتعمد أحد المصلين القدوم باكرا لفرش سجادات أصدقائه، كي يضمنوا أفضلية "الصلاة في الصف الأول".

لن تمضي إلا لحظات قليلة على انطلاق الترام، لتلحظ أنوفكم روائح غريبة ومزعجة تنتشر في العربة، مردها ذوو أفواه نتنة أو أحذية عطنة، أو مبالغون في التعطر ووضع الطيب، أو مهملون للاستحمام، أو حاملون لأطعمة فواحة كالسمك ونحوه، ... لكن أكثر ما يضايقني هو "الكمّاي" الذي لا يفارق سيجارته، ستلفيه في المحطة يمشي جيئة وذهابا وهو يدخنها بفخر قرب الجالسين، لا يبالي بأحد في غمرة انتشائه، ولا يترك حبيبته عندما يهم الناس بالركوب، بل يستكمل شربها حتى يشارف الترام على المغادرة، يرمي حينها غير مكترث عقب لفافة التبغ على الأرض، ثم يحشر نفسه بخفة داخل المركبة جارا وراءه سحابة من الهواء الملوث، ولا يمكن لآدمي مهما بلغ صبره أن يحتمل المكوث بمحاذاة "الكمّاي"، بأنفاسه الكريهة تلك وثيابه التي عبقت بالقطران.

ما إن يتوقف الترام في أحد المحطات ليترجل "الكمّاي" ويريح الراكبين من تبعات إدمانه على النيكوتين، حتى تلجه جموع "السلاحف الدراسية"، نعم، فأغلبهم من التلاميذ وطلبة الجامعات، يركبون محملين بحقائب ظهر كبيرة ليبدو مظهرهم مثل السلحفاة، وهم لا ينزلونها أرضا أبدا، بل يتركونها فوق أكتافهم منغصين العيش على من يقف خلفهم، لاسيما عند اشتداد الحركة بهم أثناء الحديث والترام مكتظ عن آخره، المؤرق في الأمر لا ينحصر في المساحة الإضافية التي تحتلها تلك الحقائب مفتعلة المزيد من الزحمة، فالأذى الذي تسببه للركاب يتمثل أيضا في إصابة ملابسهم بالوسخ عند الاحتكاك، أو الإضرار بها -دون قصد- عندما يعْلق مثلا زر قميص في سحّاب الحقيبة، أو عندما يتمزق أو يثقب ثوب راكبة ما نتيجة التصاقه بأطراف أو نتوءات معدنية تشكل جزءا من الواجهة الخارجية للحقيبة، وكثيرا ما تعلق هناك أسلاك السماعات وخصلات شعر الفتيات.

رغم ما أسلفت ذكره، قد يكون منظر "السلاحف الدراسية" في نهاية المطاف أقل إيلاما من أولئك الشباب، طلبة وموظفين، أهل الثقافة والعلم والأناقة، لمّا تلمحهم جالسين بثقة على الكراسي المُفردَة أساسا لذوي الاحتياجات الخاصة والحوامل والمسنين، يتمازحون مع بعضهم أو يلعبون في أجهزة الهاتف، وإذا رفعوا أعينهم ولمحوا شخصا يجوز له الجلوس مكانهم، حوّلوا أبصارهم إلى الناحية المغايرة أو عادوا بها إلى أدوات لهوهم دون أدنى شعور بالذنب أو المسؤولية. نادرا ما يتدخل المراقب ليطلب من أحدهم ترك المكان لعجوز أو امرأة حامل، بل يأتي الطلب غالبا من عند هؤلاء المحتاجين للقعود حين لا يقوون على تكبد عبء الرحلة، وإذا قامَ أحدهم لرجل مريض أو امرأة منهكة بعد طلب لطيف، قامَ على مضض متثاقلا، كأنه يترقب كلمة شكر أو يريد أن يمن عليهم "حسن صنيعه" بلغة الجسد، مع أنه في الأصل ما كان يجب أن يحتل موضعا لا يحق له.

تتوالى التصرفات المشينة خلال رحلتنا، وهي تصرفات أجد فيها تعبيرا جليا عن الانحطاط الأخلاقي الذي بلغناه، حيث تغيب معاني الإنسانية والتراحم واحترام حرية الآخر، يوازي ذلك استقواء النزعة الفردية وطغيان الوضاعة واستشراء المعاملة الأنانية بين العباد. وللإشارة، فكلا الجنسين يشتركان في الإتيان بهذه الأفعال، رغم أن أسطري قد توحي بأن الكلام يستهدف معشر الذكور فقط.

ولأنني على وشك النزول، سأختم بسرد فعل أخير، ربما لا يراه العديد من مرتكبيه مسيئا البتة، وهو رفع صوت الموسيقى عبر السماعات، ناهيك عن تلك المكالمات الهاتفية أو المحادثات الثنائية الجهورة، وما يتخللها من ضحك مدو وقهقهات عالية تصم الآذان، وتعمق من ضرر الصداع الناتج عن الإنذار المتكرر في كل مرة توصد فيها الأبواب. فتبا لكم ولتربيتكم القذرة.

"مدينة العرفان، محطة نهاية الخط. المرجو النزول."

أسامة حمامة

Next PostNewer Post Previous PostOlder Post Home

0 comments:

Post a Comment

Featured
Videos