أســـامـــة حــمـامـــة

W E L C O M E

جهاد النفس

Leave a Comment
إن أكبر عدو لعقيدة المؤمن في المقام الأول هي نفسه (الأمارة بالسوء)، تأتي بعدها عوامل خارجية أخرى، تضم أخاه الإنسان والشيطان والبيئة المحيطة بكل مكوناتها. وعندما يفشل المؤمن في ترويض النفس (جهاد النفس)، سينساق وراءها في أي اتجاه تسلكه، وهذا يتطور طبعا بشكل تدريجي، فأغلب من يتخلى عن عقيدته، يبدأ مشواره بأفعال بسيطة تسول له نفسه صوابها، فقد يؤجل أحدهم صلاة الصبح دائما بحجة أنه لا يستطيع القيام لها، وسيبحث عن مسوغ مادي جاهز لذلك، ككون الجسم يحتاج ساعات معينة من النوم لا يجب التفريط فيها، ثم يذهب في طريق أن الصلاة كتاب موقوت، وبما أنه لا يستطيع حاليا الالتزام بها في مواعيدها، سيضطر إلى تركها حتى "يصبح مستعدا" لها، لأنه لا يريد -حسب ظنه- أن يكون "منافقا" أو " شخصا يخادع نفسه"، مع أنه في هذه الحالة وقع فعلا ضحية خداع هوى النفس، فعدم استطاعة القيام للصبح لا يلغي إلزامية أداء الصلوات المفروضة الأخرى، والأصح هنا هو محاولة التقويم وتصحيح السلوك (وهذا هو جهاد النفس)، عوض التسويف وتبني عقلية انهزامية تقر بضعف النفس وعدم جدية الشخص وفتور قناعاته، فضلا عن سوء إدراكه لسمو مقاصد الشريعة والعبادات. فقد أُمرنا في هذا الصدد بأن نأتي من الأمور المفروضة ما استطعنا، وليس القطيعة معها وإزاحتها كليا عند أدنى شعور بعدم القدرة على إتيان إحداها أو الإحساس بالتقاعس حيالها. قال رسول الله ﷺ: "ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم". رواه البخاري ومسلم

إزاء هذا، ستجد الكثير من الناس يضيقون ذرعا بالدين ويعتبرون التشبث بتعاليمه "عبئا" ينغص عليهم الاستمتاع الأمثل بالحياة و"العيش في منتهى الحرية"، وهؤلاء طبعا وصلوا لدرجة اليقين بضرورة أن يفرد المرء وقته وحياته لدنياه فقط، وسقط من عقولهم،_ بسبب زيغ القلوب_، أي اعتبار للآخرة ويوم الحساب، وقد ينقلبون على أعقابهم، فمنهم من يتحول إلى حداثي محرِّف يريد تكييف النصوص الدينية وتأويلها بالشكل الذي يتماشى مع رغباته الشخصية، ومنهم من يرتد عن الدين، ومن يجد ضالته في الإلحاد.

المثير في الأمر هو اعتناق كثير من هؤلاء -حتى قبل تنكرهم للدين- لأمثلة من قبيل "no pain no gain"، و "If it were easy everyone would do it"، لكنهم لا يسقطون ذلك على الشق العقائدي الروحي بقدر ما يربطونه بأمور الدنيا، فاتباع التشريعات الدينية لا يفترض أن يكون يسيرا على "الشخص العادي" ما دامت الإرادة والرغبة القوية للسير في طريق الحق ليست لديه، وإلا فأين جانب التحدي في المسألة؟! وما الذي سيميزه عن بقية الناس إن كان الجميع يستطيع الالتزام بالدين والعدول عنه متى وكيفما أراد؟! وكيف سيتذوق ذاك الشخص حلاوة الإيمان؟ وكيف سيستشعر واقعا بأن الدنيا دار اختبار؟.... ثم إن المرء الذي يتحجج بكون الدين يحد من الحريات ويقوم برفع شعار الحرية المطلقة، لا يدرك أن منطقه مجانب للصواب تماما، لأن لا وجود فعليا لحرية مطلقة، فعندما تعيش في دولة معينة، فأنت تستبدل أو تضحي بجزء من حريتك من أجل العيش تحت كنف النظام الذي توفره تلك الدولة وتحصيل المكتسبات التي تعطيها (إن وُجدت)..، فلماذا يعجز الناس عن تفهم أن للدين شروطا والتزامات توفى أيضا، وأن اعتناق الديانة رهين باتباع تعليماتها قولا وفعلا، لماذا يصعب تقبل ذلك؟... ثم لماذا لا يتفقه كثير من الناس في دينهم ولايبحثون عن دلالاته بقدر ما يستثمرون الوقت لإيجاد تبريرات واهية للتخلي عنه دون شعور بالذنب؟ بل منهم من ينبذه وراء ظهره دون تكبد عناء التفكير والمراجعة، لأنه لم يكن مؤمنا بحق منذ اليوم الأول، بل "تلقّن" الدين عن طريق التقليد فقط، في إطار صوري جامد، يُغيٍّب الفهم المستفيض لمعانيه والوعي العالي بقيمته والتدبر في حكمته، ما يجعل إيمانه ضعيفا يذهب أدراج الرياح عند أول اختبار أو موقف يلمس فيه تناقضا لا يجد في ذهنه إجابة أو تفسيرا له، فقلة المعرفة الدينية آنذاك ستكون النقطة المحورية أو الوتر الحساس الذي سيتستغله أصحاب الأيديولوجيات الخبيثة لاستقطابه وإفساد عقيدته، لذا وجبت تقوية المناعة الفكرية والحصانة الدينية في المجتمع العربي الإسلامي بالتعرف على الدين عن كثب والتمعن في دراسته، عوض الاكتفاء بما يعرض في الإعلام أو ما يوجد في المناهج التعليمية التي تزداد سطحية ما تقدمه سنة تلو الأخرى. هذا واجب المسلم تجاه دينه، لا تنتظر أن توضع اللقمة دائما في فمك وأنت جالس في مكانك، قد يعلمنا آباؤنا وأمهاتنا وأستاذتنا ثلة من أساسيات ومبادئ الدين والقيم والأخلاق، لكن دورهم ينتهي في الزاد المعرفي الأساسي الذي منحونا إياه، لنكمل نحن مشوار التعلم والتفقه وتهذيب النفس حتى لا ينطفئ نور الإيمان في أفئدتنا.

أمّا بالغ الأسى، فعلى الذين ذهبوا إلى تنميط الدين ليساير متطلبات العصر والحداثة والعولمة، حتى أفرِغ الدين من محتواه، بل أصبح العديد منهم يعتبرون أنفسهم ممارسين حقيقيين للدين pratiquants وهم لا يرون فيه سوى الجانب المظهري، ويمارسون الانتقائية في تطبيق مقتضياته، ليظلوا بذلك غافلين عن إدراك عمق فحواه والإلمام بمعانيه الجليلة طيلة حياتهم.

قال عز وجل في سورة الجاثية: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

Next PostNewer Post Previous PostOlder Post Home

0 comments:

Post a Comment

Featured
Videos