أســـامـــة حــمـامـــة

W E L C O M E

في ذكرى ثانوية مولاي الطيب العلوي

Leave a Comment
لا زلت أتذكر تلك الفوارق الطبقية و التصنيفات العجيبة لتلاميذ ثانوية مولاي الطيب العلوي بسلا، فمنذ أول يوم خطوت في ساحتها، بدا لي جليا أن المساواة الاجتماعية و التأقلم في جو متنوع لن يكون أمر سهلا بذلك المكان، لن أنكر أن مرحلة الإعدادي اتسمت بتلك الفروقات أيضا، لكنها لم تكن بنفس القدر، حيث أن محاولة إثبات الذات والتمتع بالشعبية تكبر عند الالتحاق باخر محطة تعليمية قبل الدراسات العليا.

مشواري ابتدأ في 2006، كنت يافعا مملوءا بالحيوية و جد متحمس كأي مراهق، ولوج عالم الثانوي بالنسبة لي أضحى حلما يتحقق، فالثانوية كانت متاخمة لإعدادية سلمان الفارسي، التي تحولت لاحقا إلى مركز أقسام تحضيرية.

كنت أنا و من معي من زملاء القسم نمني أنفسنا دائما باكتشاف ذلك الفضاء المغري، تارة عند رؤية أحد التلاميذ مرتديا موضة جديدة يتوجه للثانوية، أو آخر رفع عجلة دراجته النارية الأمامية، حركة كان يفعلها التلاميذ لجذب الأنظار واستمالة الفتيات، كانت غالب تلك الدراجات من نوع "سكوتر"، "سي بي إر"، أو "بورغمان" الذي لم يظهر حتى عامي الثاني أو الثالث بالمؤسسة.

تحققت الأمنية، و حان دوري أنا أيضا لأجرب ذلك الإحساس، أن تكون تلميذا بالثانوية، لكن الواقع كان صادما، فالتميز بالشعبية لم يكن يقتصر على مدى لطفك أو مستواك الدراسي، بل أن شعبتك قد تحكم عليك بالنبذ قبل البداية، فقد كان "الأدبيون" آنذاك مهمشين باعتبارهم أقل قيمة و فقراء نسبيا.

لن أفند ذلك، فالتوزيع المشين يحتمل جزءا من الصواب، كان أغلب الأدبيين قادمين من أحياء شعبية كحي مولاي اسماعيل، حي الانبعاث، سهب القايد و غيرها، بساطتهم تظهر في لباسهم و طريقة كلامهم، لكن هذا ليس تعميما و لا ينتقص من إمكانياتهم التمدرسية شيئا، أريد فقط الإشارة لتلك المفارقات العجيبة و القوانين التي لا أعرف من سنها بالأساس، فقد كانت موجودة بالفعل قبل أن ألج الفصل.

الأذكياء، أو "العلميون"، الذين كنت أحقد على بعضهم، كانوا المحببين للإدارة و الأوسع شهرة في صفوف التلاميذ، فلا يمكن أن تقارن القسم الذي تدرس فيه "بنت المعيدة" و "ابن الدبلوماسي" بذلك الذي يدرس فيه تلميذ مشاغب، يتناول "المعجون"، و آخر يشتغل قاطع طريق بعد نهاية ساعات الدراسة.

لكي تكون فريدا و مرغوبا به في ذلك المشفى، نعم فقد كانت تترافد الحكايات حول كون الثانوية مصحة نفسية في القديم لما وضع من أسيجة حديدية على نوافذها، و بنائها الذي لا يتجاوز الطبقة الأولى، بل أن جل القاعات كانت تتواجد بالطابق الأرضي!

كان لزاما أن تترك بصمتك في أحد المجالات، فبعض تلاميذ شعبة العلوم الرياضية عرفوا بالتفوق، و كنت تراهم محاطين بالبنات عند الفسحة رقم بشاعة بعضهم، فالتلميذة تهمها النقطة و من يشرح لها فقط، و لا تمانع تملق ذاك الذي يمضي الساعات الطوال أمام الكراسة، و مناه الأسمى في الحياة الاجتماعية أن تقول له أنثى مرحبا.

أما ثلة أخرى، فكانوا "أغنياء الثانوية" هذا يأتي في دراجة تفوق سيارة الأستاذ ثمنا، و آخر يلبس حلة لكل يوم، كأن أباه يملك مصنعا للملابس، و أخرى يوصلها أبوها على متن سيارة "رونو فليونس" سوداء التي كانت ذائعة الصيت حينئذ.

سبحان الله، حتى في الحصص البينية الفارغة، كنت ترى التلاميذ يتحومون حول عازفي القيثار، و آخرين يطلبون إفطارا صباحيا في "بطانة"، فالميسورون تلقاهم عند "المحلبة" واقفين، والأكثر يسرا لا يبارحون الثانوية، فهناك مقصف هناك، لكن أثمنته مرتفعة، أما المعوزون فيجرون الخطى إلى بائع "الكارونتيكا" الذي استقر مع عربته بمرآب قديم، يتوافد عليه الزبناء من أغلب المدارس المجاورة، أكله يشبع و الأداء يكاد لا يضر الجيب.

لم ترق لي "الكارونتيكا" كثيرا، فقد كانت تسبب لي حساسية جلدية، ربما البيض المستعمل فيها فاسد، أو هي مناعتي لم تسطع عليها صبرا، لذلك فضلت في معظم الأوقات البقاء في ساحة الرياضة أتأمل لاعبي الكرة، بعضهم عرف بإجادة اللعبة، و كانت فرق الأقسام تسارع في دعوتهم للعب معها عند اقتراب الدوري.

وأنا جالس هناك، كنت أتخيل نفسي معروفا أيضا، تتلقفني الأنظار و تتهافت علي هاته و تلك، قبل أن يدق جرس انتهاء الاستراحة و أعود للواقع الملموس.

كان النجاح الدراسي بالنسبة لي ضرورة قصوى، فقد كان أبي لا ينفك يشجعني لبذل مجهود أكبر، و كانت نظرة أمي مودعة لي كل صباح، تترك في نفسي عزيمة و إصرارا كبيرين لإفراح قلبها.

الثانوية لم تكن بالجوار، المشي إليها كان يستغرق نصف ساعة من الزمن، ولأن جدول الحصص الأسبوعية مملوء غالبا، كنا نقضي إجماليا يوميا يصل إلى ساعتين من السير ذهابا و إيابا، لم تنل أبدا من شغفي بالدراسة، لكني كنت أكره مشقة  فصل الشتاء، وحل في السبيل، و ضايات ماء تغسلك بها كل مركبة تمر قرب الرصيف.

كثيرا ما كنت أصل مبلولا، جبيني قد ندى، و لباسي تكاد لا تجد فيه بقعة لم يطلها المطر، كنت أترك المعطف ليجف، فهو الأكثر امتصاصا، و الأثقل حملا، و حين أرتجف بردا أسارع إلى لبسه تارة أخرى، فالأقسام كانت غير مكيفة، و بعض الأسقف غلبت عليها الرطوبة، و عندما تقطر، يتغير شكل ترتيب الطاولات، فتصبح عشوائية المنظر.

شهر رمضان الذي كان يصادف دائما شهور الدراسة الأولى، كان يحظى آنذاك باهتمام عظيم، ساعات الدراسة تتقلص، و أشكال المرح و المتعة تتناسل، فهذه مجموعة تلعب الورق تحت مسمى "الحكيم"، و أخرى توارت خلف سور الثانوية لاهثة وراء أحد عازفي القيثار أو صانعي الفرجة ممن يحكون النكت، أما النشاط الذي لطالما أعجب به التلاميذ فكان دوري كرة القدم الذي تنطلق مبارياته بعد نهاية آخر حصة مسائية.

كنت أفضل الذهاب إلى المنزل لمشاهدة التلفاز و الاسترخاء، وإعداد تمارين اليوم الموالي، و لأن المسيرة إلى المنزل مضنية، فقد توقفت عن أخذ المطابع معي إلى حجرات الدرس إلا لضرورة قصوى، فبعض الأساتذة يشترطون وجود كتابين فوق الطاولة، و غالبا ما كنت أتفق مع زميلي على تبادل الأدوار في جلب الكتاب اللعين، عندما يتعلق الأمر بمادة يغنينا شرح الأستاذ عما يوجد في الكتاب لفهمها، و رغم عدم صحة نظريتنا، كانت حجة لتخفيف ثقل حقيبة الظهر المتخمة بالدفاتر، و التي يزداد ضغطها على الأكتاف عندما يتخلل اليوم حصة رياضة.

وبالحديث عن حصة الرياضة، فلم أكن من أشد المعجبين بها، لا لسبب إلا عدم اهتمام الأستاذ بتأطيرنا نحن الذكور، كان يلقي لنا كرة يد، كرة سلة أو كرة قدم، ثم ينصرف للانشغال بالفتيات، يحضر لهن زرابي "الجمناستيك" المبطنة، ثم يحثهن على الإتيان بمجوعة حركات، تحلو له المشاهدة وهن يقمن بها.

كانت المتحفظات من زميلات القسم يرفضن أداء تلك التمارين ولو انعكس ذلك سلبا على نقطة المادة، لأنهن عرفن وقاحة وسوء نية ذلك الأستاذ، فهو يبادر في كثير من المرات إلى إمساك هذه التلميذة أو تلك ليريها كيفية إتقان حركة معينة، ما يسبب إحراجا لكثير منهن، لكنهن يفضلن الكتمان وعدم إبداء الامتعاض خوفا على ضياع النقطة التي قد تعوض نقصا في مادة أخرى.

لم يكن فضاء الرياضة يتوفر على مكان للاستحمام، كل ما كان بوسعنا فعله هو تغيير الملابس ثم التوجه للصنابير من أجل غسل الأطراف، الغالبية كانوا يكتفون بإنعاش أوجههم بالماء البارد، قبل ولوج الحصة الموالية، التي تمر عذابا على الأستاذ والتلاميذ أيضا، لأن عددا ليس بيسير يلج القاعة بحذاء الرياضة المشبع برائحة العرق الفواحة، فتهم بعض الفتيات إلى محاولة جادة لتعطير القسم برش مزيل العرق في الأجواء، بينما يكتفي الأستاذ بفتح النوافذ، فمعاناتاه تكون أقل، لنظرا لقبوع مكتبه بعيدا نسبيا عن الطاولات.

كنت أتعجب من التوزيع العشوائي للحصص على "جدول الزمن" كما كنا نسميه، فأنت تطوي صفحة الرياضة مرهقا تعبا، لتجد نفسك تدرس الرياضيات أو الجغرافيا، الأدهى والأمر، أن تنتهي من الحصص الصباحية في منتصف النهار، ثم تعود إلى المنزل وتنتظر حصة مسائية تفتتح في الرابعة بعد الزوال، هذا ما ألفنا الاصطلاح عليه بـ"الساعات المثقوبة".

على العموم، كانت جودة التعليم بالثانوية أفضل من نظيراتها، فقد عرفت بصرامة الهيئة التدريسية، لكن ذلك لا يمنع وجود بعض الأساتذة الكسالى، كأستاذ مادة الإنجليزية الذي يطلب منا إنجاز تمرين بسيط على مدى ساعة من الزمن، بينما يأخذ غفوة يرتاح فيها من عياء دروس التقويم والدعم التي يلقيها بمعاهد خاصة يشتغل فيها بالموازاة مع عمله الرسمي، حسب ما تناقلته الألسن.

كنت أشعر بالأسى على أستاذ لغة عربية طيب القلب، يمضي وقت الحصة في الخروج من القاعة والدخول إليها، وذلك لتدخين السجائر، كان إدمانه شديدا، فالتهامه السريع للفائف التبغ كأنه في سباق مع الحياة، لطالما أثار عندنا العجب والذهول.

قصص الثانوية الغريبة لا أكاد أستطيع لها حصرا، و تبقى إحدى الوقائع التي أتذكرها جيدا، عندما كنت واقفا مع رفيقين لي في زقاق حي مجاور ننتظر جرس الدخول المسائي، إذا بشاب مفتول العضلات يمر قبالتنا رفقة فتاة يبدو أنها خليلته، فصاح به أحدنا بعد أن بلغا نهاية الشارع: "طلق الدجاجة لمواليها"، سمعه الشاب فاستدار وأراد القدوم للفتك بمن سبه، فمنعته الفتاة قائلة: "خليهوم، هادوك غير براهش"، مضوا في طريقهم، وظننا أننا نجونا من الموقف.

بعد فترة وجيزة، إذا بنفس الشاب يعود من نفس الطريق وحيدا هذه المرة، اتجه صوبنا، لم نفكر في الهرب فنحن عصبة، اقترب من صديقيّ وتفوه بكلام ناب قبل أن يمسك بهما ويضرب بعضهما ببعض كما في برامج المصارعة، استمتعت بثوان قليلة من المشهد السينمائي، قبل أن أتحرك ببطء متنائيا عن الأنظار، وعند وصولي لزاوية الشارع، أطلقت سيقاني للريح.

ترددت في الذهاب إلى حصة المساء، لكني أذعنت في نهاية الأمر، كانت فرائصي ترتعد، وأسفت لما لحق برفيقي من أذى، الطريف أنهما التحقا بالحصة أيضا، وجدتهما جالسين يتمازحان، وقالا لي بنبرة ساخرة: "كلينا تفرشيخة ديال العصا أخاي أسامة، راه حلف علينا"، كنا نخشى عودته للانتقام في المساء، لكن الأمور مرت بسلام،  وحمدنا الله كثيرا على ذلك.

2014


Next PostNewer Post Previous PostOlder Post Home

0 comments:

Post a Comment

Featured
Videos